من أين أتينا؟ لحوالي 40 سنة، بدت إجابة هذا السؤال أمراً بسيطاً.
لكننا نرى الآن أن للبشر قصة أكثر تعقيداً، فقد قام بتلخيصها (كريستوفر) باي وزملائه في تقريرهم المنشور مؤخراً في (ساينس)، وكانت المعطيات التي تم الحصول عليها من آسيا واستراليا أمراً أساسيا في جمع أجزاء هذا التاريخ معاً.
القصة الأصلية كانت تبدو هكذا: تطور الإنسان الحديث Homo sapiens بهيئته التشريحية الحالية جنوب الصحراء الأفريقية الكبرى في فترة ما منذ حوالي200 ألف سنة، وبقي هناك لفترة من الوقت ثم بدأ بالهجرة من موطنه في جماعات. وصل إلى أوروبا الغربية وسريعاً حدثت “ثورة بشرية” (قبل حوالي 40 ألف سنة)، منتجة قدراتنا الفنية واللغوية المعقدة؛ فهي نوع من الانفجار الإبداعي.
إن هذه الشعوب المتقدمة إدراكياً وتقنياً نافست وتفوقت على السكان الأصليين من الإنسان البدائي أو النياندرتال (وغيرهم من الشعوب القديمة أو القديمة نسبياً) وفي النهاية غزت الكوكب، لكن أدلةً جديدة تفرض علينا إعادة التفكير في هذه النسخة من التاريخ البشري.
الإنسان الحديث
تحاليل جديدة للأحافير البشرية دفعت بأول أسلافنا الذين يمكن التعرف عليهم إلى حوالي (310 آلاف من السنوات)، ولم يُعثر على هذه الأحافير في شرق أو جنوب أفريقيا، بل في جبل (إرهود) في المملكة المغربية شمالاً، وقد أثارت هذه الاكتشافات أسئلةً من قبيل كيف وأين أصبح الإنسان الحديث “حديثاً”. بشكل تقليدي كنا نرى أن الفرق بين البشر وبقية أفراد المملكة الحيوانية يكمن في قدرتهم على استخدام الأدوات، ومع ذلك فإن علماء الأحياء والرئيسيات يقومون بتسجيل المزيد والمزيد من حالات صنع واستخدام الأدوات بواسطة الشمبانزي وإنسان الغاب وغيرهم، وفوق هذا أثبت العمل الذي بدأ في جنوب أفريقيا أن الانفجار الإبداعي لم يحدث في أوروبا بل حدث في الأصل في أفريقيا، بوقت أبكر من 40 ألف سنة بكثير. في الوقت الراهن نحن نفهم أن قدراتنا المعرفية والاجتماعية المعقدة بدأت في الظهور قبل حوالي 100 ألف سنة أو أكثر، ولا يمكن تسميته انفجاراً إبداعياً، بل ربما أكثر شبهاً بالاحتراق البطيء الذي تراكم ببطء لينتج النار المستعرة من الإبداع الحديث.
الإنسان القديم والحديث
لعل أكثر الأدلة الجديدة إثارة للاهتمام تأتي من تحليل عينات الحمض النووي القديمة، وتظهر هذه الدراسات أن التفاعلات بين الإنسان “الجديد” (البشر المعاصرين مثلكم ومثلي) والإنسان “القديم” لم تكن مجرد حالة استبدال بسيطة، بل يبدو أن مجموعات من البشر الجدد والقدامى اختلطت، وتزاوجت، وتقاتلت، وتفاعلت مع بعضها بطرق مختلفة، وما زلنا نعمل على فك خيوطها، ويبدو أن نتائج هذه الأحداث تركت لنا إرثاً أبدياً، مثل وجود 1-4% من الحمض النووي الخاص بالإنسان البدائي في الإنسان الحديث غير الأفريقي. كما إن هذه الدراسات بدأت بتحديد بعض الاختلافات الإدراكية “بيننا” و”بينهم”، مثل حقيقة أن دماغ الإنسان الحديث هو عرضة لحالات مثل التوحد والفصام، فيما يبدو أن دماغ الإنسان البدائي لم يكن كذلك.
القصة الآسيوية
إن المنطقة الأسترالية الآسيوية تلعب دوراً أكبر فأكبر في إعادة كتابة قصص التاريخ البشري. فأحافير جديدة كتلك المتعلقة بالإنسان المنقرض قد غيرت بشكل كاملٍ من رؤيتنا لماهية قصة الإنسان في هذه المنطقة. أولئك البشر صغيرو الحجم، وقد يسميهم البعض “الأقزام”، والذين عثر عليهم في جزيرة فلوريس الاندونيسية، مازالوا يمثلون تحدياً لعلماء الأنثروبولوجيا القديمة، هل هم من نوع البشر المنتصب لكنهم أقزام؟ أم أنهم بقايا نوع أقدم؟ ما هي آثارهم؟ ولربما من الأكثر إثارة للاهتمام (بالنسبة لي على الأقل) هي كثرة الأدوات المُصَنّعة والتي تم العثور عليها في السنوات الاخيرة. ويبدو الآن أن أحد اقدم أنواع البشر، الإنسان المنتصب، قد يكون لديه بعض القدرة على الرمزية، وهو أمر نادرا ما ارتبط بهم. وتأتي هذه الفرضية بفضل التحليلات الجديدة للمواد من الحفريات القديمة.
إذا نظرنا إلى الوراء في المواد التي تم استخراجها من أول موقع معروف لحفريات الإنسان المنتصب في ترينيل على ساحل جافا (إندونيسيا)، الذي اكتُشف أصلا من قبل (يوجين دوبوا) في عام 1891، حيث عثر العلماء على صَدَفة تظهر نمط التعرج. وقد تم حفر هذا الشكل بعناية باستخدام أداة حجرية قبل أكثر من 400 ألف سنة (وربما حتى 500). ان ما يشبه هذه الأشكال الهندسية قد وجدت سابقاً في مواقع التنقيب في الجنوب الأفريقي، ولكن مصدرها كان الإنسان الحديث، وجميعها كانت تعود لوقت أحدث. في يوراسيا أيضا، هذه التصاميم موجودة، ولكن نادراً ما ينظر اقترانها بالإنسان البدائي؛ آثار أخرى في جزر جنوب شرق آسيا، وهذه المرة تم ربطها بالإنسان الحديث، إذ تظهر أن عرش الإبداع لم يكن حكراً على إفريقيا وأوربا فحسب، فقد استعادت الاكتشافات والحفريات الجديدة في سولاويسي وتيمور الشرقية ليس فقط أقدم الصخور في العالم، بل مجموعة واسعة من المجوهرات وغيرها من المواد الفنية، وبالإضافة لهذا الميل للفن، فقد وجد أيضاً أن أولى مستعمرات الانسان الحديث في آسيا كان أفرادها يمارسون استراتيجيات الصيد، مثل الصيد العميق في البحر، وهذا يعد مؤشرا إلى معرفة واسعة بالبحر، وأخطاره ومكافآته.
لنركز على أستراليا
كان لأستراليا مساهمتها أيضاً في إعادة كتابة التاريخ، ففي السنتين الماضيتين فقط تم دفع تاريخ استعمار هذه القارة الجنوبية الشاسعة إلى 65 ألف سنة مضت، وفيما إن أقدم حلية عظمية واقدم سكين في العالم عثر عليهما في هذه القارة، أصبح واضحاً أن استراليا كانت (ومازالت) أرضا لشعوب ذات قدرة عالية على التكيف والابتكار، كما إن السرعة التي تمت بها هذه الاكتشافات الجديدة والمذهلة في أستراليا قد ساهمت بفاعلية في تحويل أنظار الباحثين في شؤون التطور البشري من معاقل البحث القديمة في افريقيا ويوراسيا نحو الشرق. وإدراكا للأهمية المتزايدة لهذه المنطقة في تعزيز فهمنا لقصتنا، لا يقتصر الأمر على الأفراد الذين ينقلون تركيزهم إلى آسيا، بل يوجد أيضا مؤسسات بأكملها. على سبيل المثال، تم إطلاق مركز البحوث الأسترالي للتطور البشري في جامعة جريفيث في بريسبان مصحوبا برؤية هدفها التركيز على المنطقة الأسترالية للإجابة على الأسئلة التطورية.
وعلى أية حال فإن هذا وقت مثير للباحثين في هذه المنطقة، إذ يبدو أن الأجوبة التي طال انتظارها لبعض الأسئلة المركزية في دراسات التطور البشري قد يتم العثور عليها هنا في النهاية.
من فضلك اضغط الاعلان
جزاكم الله خيرا
👇👇👇
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق