البشر يحبون الصراع المسلي. الاحمر في مقابل الازرق. الدين مقابل الروحانية. فريق ريال مدريد مقابل برشلونة. فأن تكون بطلاً يعني أنك بحاجة لشخص تغلبه. فكل آله هو بحاجة لعدو لدود.
من اكثر المعارك شعبية في علم النفس هي تلك التي تنقب وتبحث بالمجال المنطقي للعقلانية مقابل الحدس الباطني وهذا ما تكشفه تعليقات من نوعية ’ انت تستغرق الكثير من الوقت في التفكير, ما عليك سوى ان تشعر.‘ ومن الجانب الاخر تعليقات مثل ’استعن بفطرتك السليمة‘.
وكلما عرفنا أكثر عن كيمياء العصب فان الغموض يتلاشى شيئا فشيئا. وهذا لا ينتقص من قوة العقلية المنتشرة. فمعرفة ان الخوف يُعالج في منطقة اللوزة الدماغية من غير ذي فائدة حين تصادف دبا اثناء نزهة بالغابة. كذلك ادراك ان الحدس هو جزء من الطريقة التي يعالج بها دماغُنا المعلومات, وليس اشارة ماورائية, لا يدمر جماليتها ولا أهميتها في الحفاظ على علاقة سليمة مع عواطفنا.
الطبيب النفسي بيتر سي وايبرو ’’Peter C Whybrow‘‘ يلاحظ ان الحدس هو مكون أساسي في تناغم الدماغ. كما انه فسر الحدس على انه معرفة انعكاسية للذات تحركها الشبكة العصبية ما قبل الشعورية. وهذه الشبكة مُعرفة بأنماط مُلقنة مسبقا, والتي تساعد على تحديد القيم الاخلاقية والعادات المُكتسبة والعقائد. وكما في ركوب الدراجات, فان التكرار يؤدي الى الاتقان فلا يعود للشك بقدرتنا محلا, فنحرر مساحة ادراكية اكثر للتركيز على اشياء اخرى. وعندما تظهر لاحقا احد الانماط المُعرفة لدينا, يبدو انبثاق الحدس كما لو كان عفويا.
وهذا, بالطبع, لا يضمن ان يكون حدسنا صائبا. فنحن نميل للتصريح عن الاحداث التي يصدق فيها حدسنا بينما نتجاهل تلك التي لا يوافق فيها حدسنا الصواب. وهذه طريقة مهمة لمراقبة عواطفنا فنحن لا نحب ان يُكتم “احساسنا الداخلي”.
ومع التسليم بمقدار استمتاعنا بنتاج الاشكال الاخرى من صنف عادات كهذه, فان القبول بأن الحدس هو نمط ادراك لا واع لا يناسب اولئك الذين يردون الظاهرة للروحانية والتي هي رؤية غريبة وفردانية.
كما ويكتب وايبرو, ’’نحن لا نجد اي مشقة في تقبل ان العديد من مهارات القيادة وبعض القدرات العقلية كمسك الكرات والتزلج وركوب الدراجات وتعلم القراءة والكتابة تصبح تلقائية مع الممارسة. ‘‘
هذا العجز عن جمع الحدس مع مثل هذه المهارات القيادية يمهد الطريق لصراع متخيل بين العقلانية والحدس, البوذي في الاسم والنهج, عالم النفس سكوت بيري كوفمان يعتقد ان انتهاج طريق وسطي بين هذه المعتقدات يساعدك ان تعيش حياة معرفية مليئة بالأفكار الابداعية.
لقد لفت الانتباه الى ما دعاه ’ شبكة الخيال‘ او شبكة الوضع المبدئي والتي تُعرف عادة بأحلام اليقظة. فحيث يحدث الحدس: يولي ما دون الوعي اهتماما شديدا بمحيطه, ضاما تفاصيل واحداث من خارج منطقة اهتمام الوعي. وعندما نُفّعل شبكة ’الاهتمام التنفيذي‘ بالتركيز على اجراء مهمة او حل مشكلة ما, فإننا نسحب مجددا من عمر ادراك النمط اللاواع.
فالقدرة على صقل الذي امامنا وتخيل مستقبل مبني على المعرفة بالماضي هو ما يجعلنا متفردين في المملكة الحيوانية – ومهما كان الطريق الذي نسلكه فإن هذه المهارة ترتقي بنا الى قمة هذه المملكة. واما الابداع, كما يقول كوفمان, فإنه التأرجح المتوازن بين هاتين الحالتين.
يعتقد وايبرو ان مهارة المعالجة الادراكية السريعة هو ما ساعد المجتمعات البشرية كي تزدهر في المقام الاول. ونقلا عن بحث الانثروبولوجي وعالم النفس التطوري روبن دنبر Robin Dunbar”” , يكتب وايبرو ان ’’ مقدمة الدماغ الكبيرة تطورت ليس من خلال التغدية المُحسنة, كما كنا نعتقد, لكنه تطور كاستجابة لتحديات المعيشة التي تتطلب المنافسة في التجمعات الاجتماعية.‘‘
ان قدرتنا على تمييز الخطر المتمثل في النصاب او قاطع الطريق مثلا في المجتمعات المتحضرة هو ضروري كقدرتنا على تمييز خطر الدب الذي قد يصادفنا اثناء رحلة جبلية. ففي احيان كثيرة يخدمنا الحدس جيدا. مع ذلك لاحظ ان الدب حينما يكون على بعد عشرة اقدام منك هو كحالة اللص الذي يتربص بك في الزاوية, فالحدس هنا لا يقدم لك اي مساعدة.
يشرح وايبرو الامر مستشهدا بعالم النفس دانيال كاهنمان ’’Daniel Kahneman‘‘:
(ان البصيرة المبنية على الحدس قد تكون محل ثقة.. فقط عندما تعمل تحت ظروف مُجربة وتكون مُعتادة ومتوقعة ومستقرة في الوقت الذي تحصل فيه الرؤية الانعكاسية. اما في حالة غياب هذه الاحتماليات المستقرة فان الحدس يصبح غير موثوقا به.)
تحت التهديد تتفعل آلية (قتال-هرب-تجلد). المعرفة المسبقة تبقى ضرورية –فالصراخ مع التلويح باليدين بقوة قد يخيف الدب- لكن لحظة ادراك المفاجأة التي تحفز الحدس لن تجد طريقها للوصول في ظل اندفاع المواد الكيميائية التي تغرق جسدك.
يمتاز البشر بكونهم مفكرين وعاطفيين. فالمعركة المُتخيلة هي اختراع من نفس العقل الذي يشترك به كلاهما. يجد كوفمان ان الجدالات من كلا الجانبين هي جدالات وهمية.
فالعاطفيون الذين يقولون ان المفكرين لا تربطهم صلة بالروحانية مخطئون بقدر اولئك الذين يقضون جل اوقاتهم في الردهة التنفيذية من ادمغتهم.
لتوضيح هذه النقطة, يجادل كوفمان في كون الروحانيين الذي يصلون مراحل متقدمة في التأمل الروحي قد يكونوا أصحاب تفكير غير بنّاء. فقضاء الساعات تلو الساعات يوميا في التركيز والتفكير لا يترك وقتا لدماغك كي يتجول بحرية في المجال النشط من الخيال. فهذا الامر سيكون مربكا لان لحظات استيعاب ما يجري ستكون صعبة الاتيان.
وكما اعتاد آلن واتس (Alan Watt) ) القول: لا تقطب حاجبيك حين تحاول تذكر حدث ما. تحرير السؤال لمنح عقلك فسحة للتفكر هي الطريقة الافضل لتذكر شيء ما.
الحدس ليس عيبا, فهو من ميزات النفس لدينا. كما انه جزء من قدرة دماغنا على فهم شعاب انفسنا الداخلية منها والخارجية, وليست شيئا قابعا خارجها في مكان مجهول. فالرسائل التي نتلقاها هي اشارات مهمة لكنها ليست ميتافيزيقية على الاطلاق.
من فضلك اضغط الاعلان
جزاكم الله خيرا
👇👇👇
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق