كانت الثورة الصناعية من بشائر ظهور نمط الحياة الحديث. فكما عبّر المؤرخ الشهير (يوفال نوح هراري) بقلمه البليغ في كتابه الأكثر مبيعًا [عاقِلُون: موجز تاريخ البشرية]، كانت الثورة الصناعية هي الشرارة لقيام الثورة الزراعية الثانية، والتحوّلات التي لا يمكن تصورّها للنظم الإيكولوجية بأكملها، وانهيار الأسرة والمجتمع، وأخلاقيات الحركة الاستهلاكية. ولا غرو في أن كل هذه التغييرات قد خلّفت نظريات نفسية هائلة لسائر البشر.
في الواقع، يُشير العلماء في دراسة حديثة إلى أنّ الثورة الصناعية قد أدت إلى بعض الاختلافات الجوهرية في سمات الشخصية والرفاه في مناطق من العالم والذي يمكن أن يُعزى إلى الصناعات الضخمة القائمة على الفحم في الدول الصناعية. وتوّصل الباحثون الى أن الهيمنة التاريخية لهذه الصناعات في منطقة معينة قد تكشف عن بعض السمات النفسية للسكان المحليين مثل تدني الاجتهاد، وارتفاع العصبية، وقلة الرضا عن الحياة، وانخفاض متوسط العمر المتوّقع.
وفي ضوء ذلك، حلّل الباحثون بيانات من إنكلترا وويلز وتحديداً المناطق ذات التركيز الهائل للصناعات القائمة على الفحم. وركزّوا على الآثار السلبية المحتملة لسيكولوجية الأشخاص الذين يعيشون في هذه المناطق الصناعية القديمة. حيث اظهرت هذه النتائج المحنة النفسية التي “تضرب جذورها في دواخل الأشخاص” وترتبط بتغيرات في سماتهم الشخصية.
وكان هناك فروقٌ ملحوظةٌ في التكوين النفسي للسكان من المناطق الصناعية، حتى بعد السيطرة على مختلف التأثيرات المحتملة مثل التعليم والثروة والجيولوجيا والمناخ والكثافة السكانية.
وكانت الحالة العصابية للأفراد أعلى في المتوسط بنسبة 33% في هذه المناطق مقارنة بسائر أنحاء البلاد. وجعلت هذه السمة الأشخاص عرّضة لأن تساورهم مشاعر القلق والهّم والإحباط والاكتئاب.
وتدّنت مستويات الاجتهاد والحرص على القيام بالواجبات بنسبة 26% في المناطق الصناعية السابقة. ولهذه الصفة تأثير كبير على الأشخاص حيث عادة ما يسعى الشخص المجتهد لإنجاز المهام على أكمل وجه وإيفاء الالتزامات المنوطة به تجاه الآخرين. ومن ناحية أخرى، يرتبط تدّني هذه الصفة بضعف الأداء في العمل في حين أن امتزاج تدني الاجتهاد وزيادة العصبية يرتبط بقلة الرضا عن العمل.
وفي هذا الصدد، ينوه العلماء إلى أن هؤلاء السكان قد يَعْلقون في دائرة مفرغة حيث تُسهم سماتهم النفسية المهيمنة في انتاج الظروف الاقتصادية السيئة للمناطق التي يقطنون فيها والذي يؤدي بدوره إلى شيوع هذه السمات.
ثمة آليتان محتملتان تظهران كيفية أن هذه الآثار السلبية صارت الدافع وراء الهجرة الانتقائية والضائقة الاقتصادية المستمرة. الهجرة الانتقائية تعني تمرّكز شخصيات وخبرات محددة للغاية في هذه المناطق الصناعية. لعل هؤلاء الأشخاص انتقلوا يأسًا من المناطق الريفية الفقيرة؛ بحثًا عن فرص عمل أفضل، وحملوا معهم صفات نفسية خاصة نبعت من ظروف معيشتهم السابقة.
إضافة إلى ذلك، عاش هؤلاء الأشخاص -بعد تراجع صناعات الفحم- في بعض المناطق المحرومة اقتصاديًا، ومع ارتفاع معدلات البطالة والجريمة، وتدّني مستويات التعليم، وتدهور الصحة الجسمانية، تضاعف الإرث المعرفي السلبي.
وفي السياق ذاته، ذكر (مايكل ستويتزير) المؤلف المشارك بجامعة بادن فورتنبرغ الحكومية للتعليم التعاوني في ألمانيا أنَ:
التراجع في صناعات الفحم في مناطق تعتمد على هذه الصناعات قد تسبب في ضائقة اقتصادية مستمرة – وبالأحرى ارتفاع معدلات البطالة. ومن المرجح أن يكون ذلك قد ساهم في الغُمَّة النفسية التي غرستها الثورة الصناعية في أذهان بعض الفئات السكانية. وقد يكون لهذه المستويات الشخصية الإقليمية تاريخٌ طويلٌ، تمتد جذوره إلى أُسس عالمنا الصناعي، لذا يمكن افتراض أنها سوف تستمر في تشكيل رفاه هذه المناطق وصحتها ومساراتها الاقتصادية.
ويؤكد الباحثون أنه رغم أنّ التقدّم الصناعي التاريخي الهائل في هذه المناطق يستند في الغالب إلى القرب الجغرافي لموارد الفحم، فليس بالضرورة أنّ الفحم ذاته هو الذي هيأ المناخ النفسي المحلي وإنما العمل المُجهد، وظروف المعيشة، والصعوبات الاقتصادية الدائمة. ومع ذلك، قد يكون لهذه النتائج آثارٌ مهمةُ للبحوث الطبية والوبائية، وخصوصًا لاستراتيجيات التدخل التي ترمي إلى تعاطي مسائل الصحة على الصعيد الجغرافي.
من فضلك اضغط الاعلان
جزاكم الله خيرا
👇👇👇
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق